والإنسانية، فكانت قصة نجاحها مرآةً تعكس سُموَّ الأهداف النسوية ورُقيّ الغايات، إنها الدكتورة ردينة ابداح، من مدينة حيفا، التي ترعرعت في الأردن، حاملةً معها شغفها بالعلم والتربية، وإرادةً لا تعرف الانكسار.
بدأت مسيرتها الأكاديمية في مجال إدارة الأعمال في الأردن، ولكنّ حبها العميق للأطفال، وحرصها على تنشئة أجيالٍ واعية، قادها لتغيير مسارها، فالتحقت بمجال تربية جيل الطفولة المبكرة. وسرعان ما تميّزت فيه، فواصلت دراستها وتخصصت في إدارة الحضانات والروضات، لتُؤسس لاحقًا حضانةً كبيرة تُشرف عليها اليوم، تضم ثماني مربيات ومساعدات اخريات. إلا أن الشغف بالمعرفة ظل يرافقها، فالتحقت مجددًا بالتعليم وانضمت إلى جامعة فرجينيا البريطانية، لتتخصص في منهج المنتسوري التربوي، الذي يُعزّز مفاهيم الاستدامة والتدوير البيئي في تربية الأطفال، ومن هناك واصلت سعيها الأكاديمي، لتحصل على الدكتوراه في البرمجة اللغوية العصبية (NLP)، وتصبح محاضرة نشطة في المراكز النسائية والمدارس العربية، سواء بشكل تطوّعي أو عبر بلدية حيفا .
"شغفي بهذا المجال هو الذي دفعني دومًا للبحث عن الأفضل لأطفالي"
وقالت الدكتورة ردينة ابداح في حديثها لموقع بانيت وقناة هلا: "أنا مربية أطفال، وشغفي بهذا المجال هو الذي دفعني دومًا للبحث عن الأفضل لأطفالي. كنت ألاحظ أحيانًا أن انطلاقتنا في تربية الأطفال تحتاج إلى رؤية أعمق، لأنهم بذور المستقبل، ومن هنا بدأت رحلتي في استكشاف دراسات وأساليب تربوية جديدة، إلى أن التقيت بمنهج المنتسوري، الذي يُعد اليوم من أرقى وأحدث المناهج المعتمدة في الدول المتقدمة.
هذا النظام التربوي الراقي يركز على توفير بيئة حقيقية يعيش فيها الطفل، بحيث تدخل هذه التجربة إلى عقله الباطن فيستمتع بها، ويُسهم ذلك في تطوير مهاراته الحركية واللغوية بشكل طبيعي وسلس. أحرص دائمًا على نقل هذه الخبرات، خاصة للنساء العربيات، وأحيانًا ألتقي أيضًا بجدّات كبيرات في السن لأشاركهن هذه الرؤية التربوية الحديثة."
"لا شك أن هناك تحديات نواجهها في مسيرتنا"
وتابعت الدكتورة ردينة ابداح قائلة: "لا شك أن هناك تحديات نواجهها في مسيرتنا، لكن الأهم هو كيف نتعامل معها ونتجاوزها. حتى عامل العمر لا يشكّل عائقًا، فكل امرأة قادرة على تغيير مسارها المهني في أي مرحلة من حياتها. المرأة تملك قدرات هائلة، واليوم أصبحت المسارات التعليمية أكثر مرونة وسلاسة، مما يفتح الأبواب أمام النساء، حتى من هنّ في سن متقدمة، للسعي نحو التعليم والتطور المهني. أنا من المؤمنات بضرورة السعي الدائم نحو الجودة، والتقدم، والتميّز. ورغم أنني أنهيت دراستي للدكتوراه، إلا أنني ما زلت أواصل التعلم، لأن طلب المعرفة لا يتوقف."
" جيل الطفولة هو جيل البذور"
وأوضحت الدكتورة ردينة ابداح أهمية مرحلة الطفولة المبكرة، قائلة: "جيل الطفولة هو جيل البذور، وكل ما نزرعه في هذه المرحلة سينمو مع الطفل ويُشكّل مستقبله، سواء على مستوى المهارات أو النهج الاجتماعي أو الثقة بالنفس. نحن نغرس فيهم القيم، والعادات، والتقاليد، ونعمل على تحفيز تطورهم بشكل سليم. كما أحرص على أن أوجّه الأطفال نحو النمو الصحيح، من خلال بيئة تربوية مدروسة، وأشعر دائمًا بدعم الأهل وتشجيعهم. يلاحظون تغيّرات إيجابية واضحة على أطفالهم، من حيث التطور الفكري والذهني، وزيادة الثقة بالنفس، إلى جانب التطور الحركي واللغوي."
"هذه الحالات السلبية عُمّمت على جميع الحضانات"
وتطرّقت الدكتورة ردينة ابداح إلى التحديات التي تواجهها الحضانات في الفترة الأخيرة، قائلة: "في الآونة الأخيرة، شهدنا للأسف تزايدًا في قضايا العنف داخل بعض الحضانات، وصلت بعضها إلى أروقة المحاكم. هذا أمر لا يُطاق، لكن المؤسف أن هذه الحالات السلبية عُمّمت على جميع الحضانات، ما أدى إلى ظلم الكثير من المؤسسات والمربيات المجتهدات. هذا الواقع أثّر بشكل سلبي على صورة الحضانات، وخلق أزمة حقيقية، خاصة في ما يتعلق بتوظيف مربيات. مررنا بفترات كان من الصعب جدًا العثور على مربية تقبل العمل في حضانة، بسبب الصورة السلبية التي تكوّنت، وبسبب تعرض بعض المربيات للظلم والاتهام العام، رغم أنهن كنّ ملتزمات ومتفانيات في عملهن. نحن اليوم نواجه تحديًا كبيرًا يتطلب من وزارة التربية والتعليم والمجتمع دعمًا أكبر لتصحيح الصورة وإعادة الثقة بمهنة التربية في سن الطفولة المبكرة."
"احتياجات الأطفال اليوم تختلف كثيرًا عمّا كانت عليه في الماضي"
وتحدّثت الدكتورة ردينة ابداح عن الفروقات بين احتياجات الأطفال في الماضي والحاضر، قائلة: "احتياجات الأطفال اليوم تختلف كثيرًا عمّا كانت عليه في الماضي. أنا، على سبيل المثال، عوّدت أطفالي على البساطة، بينما نرى اليوم أن متطلبات الأطفال باتت تفوق أعمارهم. وللأسف، أجد أن أطفالاً في سن ثلاث أو أربع سنوات يحملون الهواتف الذكية أو الأجهزة الإلكترونية المحمولة، وهذا أمر مقلق. في الحضانة التي أديرها، أرفض تمامًا إدخال أي جهاز إلكتروني، لأن هذه الأجهزة تضعف من تطور الخلايا الذهنية لدى الطفل. حتى مشاهدة التلفاز غير مسموحة، لأنني أؤمن أن الترفيه الإلكتروني يأتي على حساب النمو العقلي السليم، الذي يحتاج إلى تفاعل مباشر مع البيئة، اللعب الحر، والحوار مع الآخرين."